وأوصاه فلما انقضى نحبه ودفنوه صرف النفقة واتفق مع طه الكردي وصالح الدولة وتحصن بعكا وحضر سليمان باشا فامتنعا عليه ولم يمكنه الدخول إليها فاستمر إسماعيل باشا إلى أن أخرجه أتباع المترجم بحيلة وملكوا سليمان باشا بعد أمور لم تتحقق كيفيتها وذلك ومات عين الأعيان ونادرة الزمان شاه بندر التجار والمرتقي بهمته إلى سنام الفخار النبيه النجيب والحسيب النسيب السيد أحمد بن أحمد الشهير بالمحروقي الحريري كان والده حريريًا بسوق العنبريين بمصر وكان رجلًا صالحًا منور الشيبة معروفًا بصدق اللهجة والديانة والأمانة بين أقرانه وولد له المترجم فكان يدعو له كثيرًا في صلاته وسائر تحركاته فلما ترعرع خالط الناس وكتب وحسب وكان على غاية من الحذق والنباهة وأخذ وأعطى وباع واشترى وشارك وتداخل مع التجار وحاسب على الألوف واتحد بالسيد أحمد بن عبد السلام وسافر معه إلى الحجاز وأحبه وامتزج به امتزاجًا كليًا بحيث صارا كالتوأمين أو روح حلت بدنين ومات عمدة التجار العرايشي وهو بالحجاز وهو أخو السيد أحمد بن عبد السلام في تلك السنة فأحرز مخلفاته وأمواله ودفاتر شركائه فتقيد المترجم بمحاسبة التجار والشركاء والوكلاء ومحاققتهم فوفر عليه لكوكا من الأموال واستأنف الشركات والمعاوضات وعد ذلك من سعادة مقدم المترجم ومرافقته له ورجع صحبته إلى مصر وزادت محبته له ورغبته فيه وكان لابن عبد السلام شهرة ووصلة بأكابر الأمراء كأبيه وخصوصًا مراد بك فيقضي له ولأمرائه لوازمهم اللازمة لهم ولأتباعهم واحتياجاتهم من التفاضيل والأقمشة الهندية وغيرها وينوب عنه المترجم في غالب أوقاته وحروكاته ولشدة امتزاج الطبيعة بينهما صار يحاكيه في ألفاظه ولغته وجميع اصطلاحاته في الحركات والسكنات والخطرات واشتهر ذكره به عند التجار والأعيان والأمراء واتحدا بمحمد آغا البارودي كتخدا مراد بك اتحادًا زائدًا وأتحفاه بالجرايا وخصصاه بالمزايا فراج به عند مخدومه شأنهما وارتفع بالزيادة قدرهما ولما تأمر إسماعيل بك واستوزر أيضًا البارودي استمر حالهما كذلك بل وأكثر إلى أن حصل الطاعون ومات به السيد أحمد بن عبد السلام في شعبان فاستقر المترجم في مظهره ومنصبه شاه بندر التجار بواسطة البارودي أيضًا وسعايته وسعادة طالعه وسكن داره العظيمة التي عمرها بجوار الفحامين محل دكة الحسبة القديم وتزوج بزوجاته واستولى على حواصله ومخازنه واستقل بها من غير شريك ولا وارث وعند ذلك زادت شهرته وعظم شأنه ووجاهته ونفذت كلمته على أقرانه ولم يزل طالعه يسمو وسعده يزيد وينمو وعاد مراد بك والأمراء المصريون بعد موت إسماعيل بك وانقلاب دولته إلى إمارة مصر فاختص بخدمته وقضاء سائر أشغاله وكذلك إبراهيم بك وباقي الأمراء وقدم لهم الهدايا والظرائف وواسى الجميع أعلاهم وأدونهم بحسن الصنع حتى جذب إليه قلوب الجميع ونافس الرجال وانعطفت إليه الآمال وعامل تجار النواحي والأمصار من سائر الجهات والأقطار واشتهر ذكره بالأراضي الحجازية وكذا بالبلاد الشامية والرومية واعتمدوه وكاتبوه واسلوه وأودعوه الودائع وأصناف التجارات والبضائع وزوج ولده السيد محمد وعلم له مهابًا عظيمًا افتخر فيه إلى الغاية ودعا الأمراء والأكابر والأعيان وأرسل إليهم إبراهيم بك ومراد بك الهدايا العظيمة المحملة على الجمال الكثيرة وكذلك باقي الأمراء ومعها الأجراس التي لها رنة تسمع من البعد ويقدمها جمل عليه طبل نقارية وذلك خلاف هدايا التجار وعظماء الناس والنصارى الأروام والأقباط الكتبة وتجار الإفرنج والأتراك والشوام والمغاربة وغيرهم وخلع الخلع الكثيرة وأعطى البقشيش والإنعامات والكساوى ولا يشغله أمر عن أمر آخر يمضيه أو غرض ينفذه ويقضيه كما قيل أخو عزمات لا يريد على الذي يهم به من مفظع الأمر صاحبًا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه وفكب عن ذكر العواقب جانبًا.
وحج في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف وخرج في تجمل زائد وجمال كثيرة وتختروانات ومواهي ومسطحات وفراشين وخدم وهجن وبغال وخيول وكان يوم خروجه يومًا مشهودًا اجتمع الكثير من العامة والنساء وجلسوا بالطريق للفرجة عليه ومن خرج معه لتشييعه ووداعه من الأعيان التجار الراكبين والراجلين معه منهم وبأيديهم البنادق والأسلحة وغير ذلك وبعث بالبضائع والذخائر والقومانية والأحمال الثقيلة على طريق البحر لمرساة الينبع وجدة وعند رجوع الركب وصل الفرنساوية إلى بر مصر ووصلهم الخبر بذلك وأرسل إبراهيم بك إلى صالح بك أمير الحاج يطلبه مع الحجاج إلى بلبيس كما تقدم وذهب بصحبتهم المترجم وجرى عليه ما ذكر من نهب العرب متاعه وحموله وكان شيئًا كثيرًا حتى ما كان عليه من الثياب وانحصر بطريق القرين فلم يجد عند ذلك بدًا من مواجهة الفرنساوية فذهب إلى ساري عسكر بونابارته وقابله فرحب به وأكرمه ولامه على فراره وركونه للمماليك فاعتذر إليه بجهل الحال فقبل عذره واجتهد له في تحصيل المنهوبات وأرسل في طلب المتعدين واستخلص ما أمكن استخلاصه له ولغيره وأرسلهم إلى مصر وأصحب معهم عدة من العساكر لخفارتهم ويقدمهم طبلهم وهم مشاة بالأسلحة بين أيديهم حتى أدخلوهم إلى بيوتهم ولما رجع ساري عسكر إلى مصر تردد عليه وأحله محل القبول وارتاح إليه في لوازمه وتصدى للأمور وقضايا التجار وصار مرعي الجانب عنده ويقبل شفاعاته ويفصل القوانين بين يديه ويدي أكابرهم ولما رتبوا الديوان تعين من الرؤساء فيه وكاتبوا التجار أهل الحجاز وشريف مكة بواسطته واستمر على ذلك حتى سافر بونابارته ووصل بعد ذلك عرضي العثمانية والأمراء المصرية فخرج فيمن خرج لملاقاتهم وحصل بعد ذلك ما حصل من نقض الصلح والحروب واجتهد المترجم في أيام الحرب وساعد وتصدى بكل همته وصرف أموالًا جمة في المهمات والمؤن إلى أن كان ما كان من ظهور الفرنساوية وخروج المحاربين من مصر ورجوعهم فلم يسعه إلا الخروج معهم والجلاء عن مصر فنهب الفرنساوية داره وما يتعلق به ولما استقر يوسف باشا الوزير جهة الشام آنسه المترجم وعاضده واجتهد في حوائجه واقترض الأموال وكاتب التجار وبذل همته وساعده بما لا يدخل تحت طوق البشر ويراسل خواصه بمصر سرًا فيطالعونه بالأخبار والأسرار إلى أن حصل العثمانيون بمصر فصار المترجم هو المشار إليه في الدولة والتزم بالإقطاعات والبلاد وحضر الوزير إلى داره وقدم إليه التقادم والهدايا وباشر الأمور العظيمة والقضايا الجسيمة وما يتعلق بالدول والدواوين والمهمات السلطانية وازدحم الناس ببابه وكثرت عليه الأتباع والأعوان والقواسة والفراشون وعساكر رومية ومترجمون وكلارجية ووكلاء وحضرت مشايخ البلاد والفلاحون الكثيرة بالهدايا والتقادم والأغنام والجمال والخيول وضارقت داره بهم فاتخذ دورًا بجواره وأنزل بها الوافدين وجعل بها مضايف وحبوسًا وغير ذلك.