موضوع: ادب السجون : كلمات من خلف الأسوار بقلم الأسير:عمار الزبن ( 27 مؤبد ) السبت أبريل 05, 2008 9:17 pm
كلمات من خلف الأسوار الأسير : عمار الزبن ( 27 مؤبد ) في رثائه لوالدته عائشه الزبن شهيدة معركة الامعاء الخاوية
أهلي الأحبة : ـ تحية طيبة ـ اسأل الله أن تكونوا بخير وصحة جيدة والوالد بصحة ممتازة.
«يتربى المرء فينا على المبادئ ومفاهيم بحاجة إلى تمحيص دائم حتى نعلم مدى تأثيرها في النفس وخروجها من دائرة الشعار إلى التطبيق» كانت هذه الكلمات القلائل، تتردد في رأسي طيلة أيام الإضراب عن الطعام، وقد اشتد الجوع ونحول الجسم وهزاله، وبات الرأس ثقيلا، إلا من الإصرار والثبات اللذين يرفعانه، حتى لا يبدو منكسرا أمام السجان. وعلى ضوء ذلك كانت تتراءى أمامي صور وأحداث كثيرة، أبرزها ذاك الصوت المنبعث من البناية المجاورة التي تسكنها خنساوات فلسطين «الأسيرات» حيث تنادي إحداهن وهي حلقة الوصل بيننا وبينهن، تسأل عن معنوياتنا وأخبارنا، وتبث الصبر والعزم في قلوب الرجال. لم ادر أي خاطر ذاك الذي داهمني في يقظتي وكأن أمي عائشة تناديني من هناك، وتصرخ دون أن أرى وجهها بفعل الحاجز الحديدي، وتدور أحداث ذاك الخاطر في رأسي وأمي تسأل عني عن أخباري بعد انقطاع الزيارة مدة أربع سنوات عجاف، وأنا أطلب من إخواني بأن يقربوني أكثر فأكثر إلى زنزانة محاذية لصوت أمي وأسهر ليلتها على وقع خاطري والجوع، فأصحو بعد غفلة مباغتة على قيام وقد سلم الخاطر وظيفته إلى شقيق غيره. وذهب الرأس بعد الفجر إلى موعظة تأبينية، كنت قد أعددتها سابقا نزولا عند رغبة إخواني تأبينا لشهداء طولكرم الستة قبل الإضراب، ولم تسعفنا الظروف لذلك فبقيت ساكنة تجيء وتذهب، من أم سلمة التي ودعت زوجها الشهيد سائلة المولى عز وجل أن يأجرها في مصيبتها ويخلفها خيرا منها فرزقها الله الرسول زوجا خلفا لأبي سلمة. في صباح السابع عشر من أيام الإضراب -وبعد تردد من الشباب- أتاني احدهم يصارحني بخبر استشهاد الوالدة التي كانت تحاكي خاطري البارحة وتمر على موعظة الموت، وهي الآن حقيقة واقعة ترحل في خيمة الاعتصام... إنا لله وإنا إليه راجعون... لحظة التمحيص حانت، فلا بد من الثبات، وما يحق لغيرنا لا يجوز في حقنا، والمقدمة ضريبتها غير الوسط والمؤخرة، ونسأل الله الثبات والقبول. ويأبى الرأس بخواطره الكثيرة التي تتشابك كتشابك الواقع المعقد الذي تحياه امتنا وشعبنا، إلا وان يذهب حيث خيمة الاعتصام والرسائل التي تركتها روح عائشة هناك. صحيح بأن الأقدار بيد الخالق يقدرها كيفما يشاء، وعائشة أمي جزء من ذلك رحلت كأفضل ما يكون الرحيل، لكنها شهدت بموتها على أناس يملكون الأسباب ويكيفونها وفق اجتهادات عقولهم التي وهبهم الله إياها، وبذلك أقامت الحجة عليهم ورحلت. فإن كان جسد عائشة وروحها قد مات فإن الأحياء قد أماتوا أمورا كثيرة في عقولهم وحساباتهم، وهم يملكون خياراتهم بأيديهم.
تسألُ الحاجة فرحة البرغوثي منذ ستة وعشرين عاما -طيلة فترة اعتقال نجلها نائل- أين الأحياء من نائل البطل!؟ وكيف يستخدمون عقولهم وامكاناتهم التي وهبهم الله إياها في تحريره؟ وكيف يبرمجون أولويات نضالهم وجهادهم، بعد أن تصدروا الأحداث وارتضاهم نائل في حينها، عندما كان في الميدان!!. أما سعيد العتبة فأمه ماتت منذ سبعة وعشرين عاما... عفوا، لكنها ما زالت تمشي ما بين نابلس وعسقلان، فهي تموت منذ ذاك التاريخ مئات المرات، ويحييها إلى هذه اللحظة أمل بان تدب ثقافة غائبة عن أولوياتنا -ثقافة الأسير وتحريره وحقه بان يقتطع نصيبه من اهتمامات المقاومة وقطاعات الشعب المختلفة. أما يحيى السنوار -الذي تصارع والدته مرض السرطان وتأبى أن تستسلم لهذا الداهم تمسكا بنجدة سببية من تلامذة يحيى الذين تركهم قبل ستة عشر عاما-، فلسان حاله كحال البقية من رفاق أسره، يتساءلون بمنطق الدارسين عن عشوائية المقاومة والانكباب على توجه وحيد دون غيره، ودون إعطاء الأوجه الأخرى حقها، وهذا ما يسمونه بضيق الأفق وتشتيت الجهود وعدم مأسسة العمل المقاوم، حتى تبرمجت العقول اوتوماتيكيا، ولم تعد تفكر سوى بطريقة واحدة على أهميتها لكنها جزء من كل وليست كل شيء. عدت من خيمة الاعتصام وعادت عائشة معي وقد أعاشتني من جديد طفلا في أحشائها، يأكل مما تأكل ويأنف مما تأنف، ويموت على ما ماتت عليه. ويبقى لمن صاح ويصيح بالمبادئ الثورية، أن لا يهدم خيمة الاعتصام في داخله ورأسه، فآلاف "العوائش" ينظرن إليه، فالعيش حرا بحرية غيره. وكان لاستشهاد عائشة -أمي- بالغ الأثر في نفوس البواسل في هداريم وغيرها من المواقع، وكان العزاء الذي تقدموا به- أن يحفظوا لعائشة العهد بالصبر والثبات، فهل يعزينا بواسل فلسطين على طريقتهم ونهدم خيمة الاعتصام معا!!.