أرخى الليل سدوله كما أرخاها على مر التاريخ على أسرار يشيب لها الولدان ، فتحلق الصبية الصغار حول العجوز المنهك بالسنين،
يلوك الكلام بتأن و حنين، تتخلله لحظات سهو و أنين، يعتصر ذاكرته، و يستجمع أطراف روايته المتناثرة في مخيلته،
ينظر ألى حفيدته "
كتانيا " فتنهمر صور شعب مقهور يعيش في كاتلونيا، و يرمق حفيده "
بريشنا "، فترتعش فرائسه من ذكرى ناد
اسمه برشلونة وعن جيشه الذي خاض معارك و حروب لا تنتهي ضد الظلم و القهر، يصمت فجأة و يتجمد في مكانه ،
فتنعكس أضواء الشمعة على وجهه الشاحب المليء بالتجاعيد، ترتعد أطراف الأطفال الصغار وجلا، ينظر القط الممشوق القوام،
الناعم الملمس باستغراب في العينين الشاخصتين، لكنه لا يبالي بأي شيء، أسمه "
برشلوني "، يدير الهر الذكي رأسه بخفة
و ينظر بقسوة إلى زاوية مظلمة في البيت، تبرز عينان خبيثتان لفأر أسمه "
مدريدي " ، سمين كث الشعر اعتاد على أن يقتات
على سرقة مؤونة أهل الدار، نهره برشلوني بحركة كتفيه دون أن يبرح مكانه فنخسأ مدريدي و دخل جحره، و أخد يسترق السمع بمكر،
استرسل الجد في حديثه، بصوت شجي أعاد الاطمئنان إلى قلوب الصغار: و الآن يا أحبائي سأروي لكم قصة جبان رعديد قدم إلينا
من بلاد أسمها مدريد، عاث في أرضنا فسادا و نشر فيها الخراب الشديد، أذل أهلها تارة بالتهديد و مرة أخرى بالوعيد، ولم يكفه ذلك
فقد مر ألى سن قانون الغاب و قام بالتنفيذ، أسس ناديا طوعه و دجن مشجعيه، فأدوا له [ التحية الفاشية ] وانحنوا له بالتمجيد،
لكن أهل بلادنا لم يسكتوا له فانبرى منهم شجاع صنديد لا يهاب المنية، ولا يركع بالنار ولا بالحديد، أسس ناديا فأخذ يقارع الظلم
في الساحة وحيد، سلطوا عليهم الضباع، لكن لم يقدروا أن يمنعوا أسمهم أن يذاع، سنوا قوانين الظلم و الخداع، لكنهم لم يستطيعوا
أن يمنعوا صيتهم أن يبزغ كالشعاع، زوروا التاريخ بالأرقام المنمقة، و صنعوا ببغاوات بالباطل متشدقة، لكن الحقيقة ياأبنائي
لا يمكن أن تحجب بالغربال، اندحر الوحش و لو بعد طول أمد، ولم يبقى ألا
أذنابه تقتات على الماضي الملوث بدم الأبرياء و آهات الثكالى ؛
ارتسمت على الوجوه البريئة ابتسامات الرضا و السرور؛ وجه واحد فقط انتفخت أوداجه و خرجت عيناه غضبا، نهض بسرعة فائقة،
انقض بخفة على الفأر الملعون، قضى عليه في ثوان، ثم حاول أن يبلعه، لكنه لم يستطع لأنه كان لحما فاسدا، نبت من سرقة جهد الآخرين.
أخذ الكرى يدق جفون عيون الصبية، وضع الجد المرتعد قبلة على جبين حفيديه، ومرر يده على قطه المحبوب وصاح [
عاش برشلوني، عاشت كاتلونيا....... ]