موضوع: وتستمر الحياة... الإثنين أبريل 28, 2008 5:02 pm
كانت الأوراق مبعثرة فوق مكتبي، يكاد المكتب الهزيل لا يقو على حملها، نظرت فيها من جديد في يأس وحاولت عبثا ترتيبها ترتيبا زمنيا ليسهل علي مراجعتها لاحقا... كانت الأوراق جلها فواتير تحمل الملايين في أسطرها ولكنها بالنسبة لي حبر فوق ورق وتظل في النهاية ورقة حقيرة تعكر صفو ساعاتي ... أنظر إلى ساعة يدي فتشير لي أنها الرابعة مساءا وخمس دقائق ... حتى هذه الساعة أمرها عجيب لفؤادها دقات تتسارع في مواضع نريد فيها أن تتباطىء، وكم يحلو لها التباطىء في لحظات انتظارنا - ونحن في عتمة ليل حالك- إلى بصيص من نور شمس يوم جديد... لم أقو على ترتيب الأوراق، دسستها جملة في الخزانة وحملت حقيبة يدي، أطفأت النور وأغلقت باب المكتب وانصرفت في نشوة وكأنني تخلصت من الأوراق إلى الأبد، وكأنها لن تقابلني من جديد صباح الغد، تلك الأوراق البائسة كم تتلذذ في الجلاء بين عيني ... من وراء الباب الرئيسي، لمحت الشارع مكتظا بالمارة، وكأن النهار في منتصفه وقد غمر الضياء الأفق ، الكل في حركة والكل مسرع، أنا الأخرى انطلقت سريعة الخطى، ولكنني سرعان ما أدركت أنني بحاجة إلى إبطائها ، نعم بحاجة إلى النظر إلى الشارع وأزقة الأحياء والدكاكين المزروعة هنا وهناك مثلما كنت أفعل منذ زمن ...منذ زمن؟ عن أي زمن أتحدث؟ وأي الأزمة أقصد؟ أهو زمن النكسة؟ أم زمن اليأس ؟ ربما زمن السجن وراء قضبان الخوف ؟ أو الاستسلام... الحرمان... تبا ، لم أنجح في وضع عنوان لذلك الزمن أو اسما ولا حتى مرجعا ... كم تمنيت ذلك، لأنني لا أريد أن أتذكر أدنى تفاصيل ذاك الزمن الحاضر الغائب... رميت لخيالي عينا بين صفحات ذاك الزمن فتذكرت أن عقارب الساعة كانت حينها بطيئة جدا لدرجة تقلقني، فلم أراها سريعة الآن ؟ ... لربما كان الزمن ثابتا؟ والأحداث التي تكسو جدرانه بين الحين والآخر تغير من لونها كما تفعل الحرباء في أحضان الشجر... ورحت أتساءل من جديد عم حدث معي في ذاك المجال الزمني، لم أكن حينها أستطيع رؤية الشارع والدكاكين والمارة مثلما أفعل الساعة، كنت لا أرى سوى ذاك الشبح بين عيناي يطاردني الليل والنهار، في صحوتي ومنامي ، هل كنت مسحورة؟ لا لا ... ليس كل ذي هم مسحور .. أما الأشباح والأرواح- التي تهاجر جثث الموتى لتتقاسم مع الأحياء حياتهم- فلم أكن ممن يؤمنون بها ...و لكنه كان كذلك، يلاحقني في كل وقت وحين، يغزو أفكاري وشعوري ويتحكم في تصرفاتي يقف بيني وبين السعادة حاجزا صعب العبور، فتراني لا أسمع سوى صوته ولا أرى إلا صورته، أليست تلك الصفات للأشباح؟ كنت أعتقد أن الحياة سوف تنتهي فوق عتبة ذلك الكابوس المخيف الذي حسبته بادئا حلما ورديا قد زارني، نعم كنت أتوقع زهق روح أيامي وساعاتي على يد ذلك الشبح السفاح، ولكن... أين ذهب ؟ كيف اختفى ؟ هل خلع روحه عن روحي ؟ هل سأعيش بسلام ؟ أم أنه سيزورني يوما، فقط لأنه يحبني وأنا أكرهه كرها حد الخوف ... لطالما كان الخوف من المستقبل هاجسي الوحيد ولكن قد يصبح الخوف من الحاضر أشد أثرا وقوة، وليس من الضروري أن يرسم الألم نقطة نهاية لجملة حياتنا، فغالبا ما يحولها إلى جحيم ويضرب لنا مع القدر موعدا لاحقا... عندما وصل تفكيري الى فكرة عودة الكابوس، انصرفت مسرعة من مدن الماضي، وعاودت صورة الشارع تتمثل أمام عيناي بروعتها، لا يزال مكتظا بالمارة ، والدكاكين مفتوحة الأبواب والأطفال يبتاعون ما طاب لهم من ألبسة جديدة لعيد سعيد ، وهذا رجل يشتري كبش سمينا والفرحة لا تفارق ابتسامة طفل يساعده في إدخال الكبش إلى الشاحنة ... نعم هي الحياة إذن، سماء بألف فصل، سرعان ما تتبدد سحب الكآبة والألم لتشرق شمس السعادة، فتغمر الكون الحزين ببهجتها، رحت أستنشق دخان السيارات وأسمع صهيلها أخالني في رياض نقية الهواء لا يسمع فيها سوى زقزقة العصافير المغردة أنشودة انتصاري فوق حلبة الدنيا في احد أشواطها، تمنيت لو دفنت خصمي بيدي ولكن لابد للحياة أن تستمر بعسرها ويسرها ...
نورس فلسطين
المشرف العام
عدد الرسائل : 7626 العمر : 51 الحالة الاجتماعية : متزوج المستوى التعليمي/العمل : مكتبة وهدايا الهوايات : كل شيء جميل : تاريخ التسجيل : 09/03/2008