قائدة لفصيل نسائي .. مهلهل .. مبعثر .. خليط ، قاعدته العريضة من العجائز... والمتزوجات..والمعلمات .. قليل منهن آنسات وصبايا ..رغم شوقهن إلى الالتحاق !! خليط من بنات حواء .. يتواجدن في البيت..في الحارة ، اعتدن الجلوس على مصاطب مداخل البيوت والشوارع الضيقة ، والبيوت الملاصقة بعضها ببعض ، في السوق.، في مدارس البنات.، في الأفراح والمئاتم ، يلبسن دوما الثوب الأسود وغطاء الرأس الأبيض ، لا يطلبن تصريحا من أحد ، في العيادات وفى مقبرة الحي ، يتزاورن باستمرار في المناسبات وغير المناسبات في كل مكان. .تراهن في سوق الجمعة بحي الشجاعية ، وفى السوق المركزي اليومي يفصله إلى جناحين هما التركمان ، والجديدة ، وتسافرن على الأقدام لسوق فراس في منتصف مدينة غزة ، يطل على المدينة القديمة من الشرق وعلى حي الرمال من الغرب .
إنهن ملح الأرض والحياة . يحملن على رؤوسهن أطفالهن . مشترياتهن .. لا يمتلكن أدوات اتصال ببعضهن . لا تليفون للثرثرة . ولا فاكسات لإصدار التعليمات والإرشادات.. ولا موبايلات للتسكع ، والنميمة وقتل أبناء الجيران لتلصصهم على الحيطان ، أو لانتماءات عشائرية ، و مصالح فئوية .. الاتصال المواجهى المباشر ، فاللغة والكلام واللسان والإشارات والحركات هي أدوات الاتصال .
. عند الخطر تدق أم يعقوب على الأبواب المخلوعة ، وصاج الزينكو . وعلى جدران الحيطان.. وبأعلى صوتها : اخرجوا يا نسوان. صرخة واحدة كفيلة بتجميعهن دون تردد .. لا أحد منهن تسأل لماذا.؟؟. وأيش جرى.. ينصعن بالسليقة وراء أم يعقوب . لأنهن قد أدركن بالتجربة والممارسة أن أم يعقوب لا يمكن تناديهن إلا لأمر يتعلق بالحي ، وحدوث خطر ما ، ولا بد من التحرك السريع ، ثقة مطلقة . ، عالية جدا لدرجة إنهن يستمعن لام يعقوب أكثر من أزواجهن .. لا تتردد أي منهن بالخروج فورا . ولا واحدة منهن تقول أنتظرى حتى اطبخ.. أو اعجن.. أو اغسل . كلهن يتركن ما بأيديهن . وينسبن كالما ء الجاري دون تعطل . ليس كماء البلدية الذي لا ينساب بانتظام إلى البيوت الفقيرة .. !!
يتحركن معها وبجوارها وخلفها ، وليس أمام أم يعقوب .. قائدة حقيقية ، لا ترض أن تكون خلف الصفوف ، دائما في المقدمة . هذه الميزة لاحظها كبار حي الشجاعية . مقدامة دائما وليس كضباط بعض الجيوش العربية حين يصدرون أوامرهم لجنودهم في المعركة تقدموا ، وهم في المؤخرة !!! . رحم الله شهيد مصر والعروبة الفريق عبد المنعم رياض الذي أعطى الدرس للقادة ، وأرسل رسالة أن هناك قادة شجعان وفى المقدمة دائما...كانت أم يعقوب لا تقول لهن اذهبن .. بل اتبعنني . كقادة حركات التحرر الثوريين الذي انقطع نسلهم في الزمن الأغبر . زمن الردة والمتسلقين والمخنثين من الرجال والنساء . زمن الفهلوة . والشطارة . زمن الثقافة الاستهلاكية ، العولمة المستبدة.. زمن يقتل الأخ أخاه من أجل السلطة والجاه ، زمن الفتاوى ، والسحر والشعوذة ، زمن الثرثرة والتسكع والسباحة في بعض فضائيات الذل والخديعة ، والترويج للحل الامريكى ، ولعصابات الجهل والوعي الساقط.
أم يعقوب لم تقرأ رواية الأم لمكسيم جوركي ، لمنع الحكومات تداولها ، وشحة أعدادها المهربة عبر الحدود والأسلاك الشائكة ، نسخ مهترئة يتداولها التقدميون والوطنيون ، ومخبئة في مكان سري ، لا تتحرك إلا بأمر من كلمة السر ، لم تتعرف على أم بافل ... لم تتصفح كتب وأنجيل الفقراء لماركس ، أنجلس ، لينين ، وماوتسى تونج ، وهوشي منه ، والجنرال جياب . لكنها كانت ثورية ، ينتفض جسمها عندما تسمع عن الظلم .. لم تسمع عن ثورة كوبا كاسترو ، وجيفارا ، وغسان كنفاني ، وماجد أبو شرار ، ونبيل قبلان ، لكنها كانت متمردة على الواقع ، تبحث عن تغييره ، لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب .. لم تتعرف على شعراء المقاومة ضد الظلم والاحتلال ، توفيق زياد، سميح القاسم معين بسيسو محمود درويش ، خليل توما ، ناظم حكمت ، صلاح عبد الصبور ، عبد الوهاب البياتى ، ... الخ سمعت عن المناضلين والمناضلات الذين استشهدوا في معارك الكفاح عبد القادر الحسيني ، رجاء أبو عماشة ، دلال المغربي ، عمر عوض الله ، اسعد الشوا .الخ ...
أم يعقوب لم تكن كاتبة ، .أو مثقفة . أتدرون لماذا ؟ لأنها أمية ، لا تقرا ، ولا تكتب !!! لا تفك الحرف إلا أنها تجيد الحساب ولا أحد يضحك عليها ، لم تذهب لمدرسة أو كتاب في الحارة التي ترعرعت فيها ، لم يهتم احد بمحو أميتها ، كانت تردد دائما المدرسة بتعلم لكن الحياة بتعلم أكثر. . صقلتها والتجارب عركتها ، إنها كادحة . مسحوقة . تعرف هموم الكادحين والمسحوقين . وتعرف أن الخبز والأمن والحرية ، مطالب أساسية للناس ، ولاستمرار الثورة والانتفاضة ، وبدونها لا يمكن للناس أن تصمد في وجه الاحتلال الصهيوني .. وتردد شعار يلعن الدولة، ويخرب بيت الحكومة التي لا تستطيع أن توفر الخبز والسلام لناسها.. فيلسوفه بالسليقة . بواقعها الطبقي.. وهل تفوقت على ماركس ، أو أنها مع ماركس يؤكد أن الأفكار والوعي الاجتماعي هو انعكاس للواقع الاجتماعي ، لم يعلمها ابن خلدون ، ولكن علمتها الحياة ، التجربة ، صقلتها المعاناة ، وعرفت أن الظلم لا يمكن السكوت عليه ، وعلى المظلوم أن ينتفض عندما يحس بالظلم ، حتى وان دفع حياته ثمنا .. وكانت تردد الموتة وحدة ، وعلينا أن نموت بشرف ، لم تتعرف على الديمقراطية ، لكنها تدرك أن الذي يشاور لا يعاب !!! تعلمت وتربت ، ورضعت حليب المعرفة والممارسة من شيوخ وكبار عائلتها بحي الشجاعية . أن يكون الرجل رجلا .. لا يطاطىء الرأس . لا يكون جبانا ، لا يهرب من المعركة أو الطوشة ، اضرب وانضرب وعمرك ما تيجى مضروب فقط ، وإلا سينالك من العائلة المزيد من العصي والكفوف ، كما تعلمت أن تكون المرأة رجلا حتى في معاركها ، وان تكون دوما جاهزة لأية طوشة بالنبوت والحجارة .
اشتدت المقاومة الفلسطينية بغزة على اثر الاحتلال الاسرائيلى للوطن عام 1967 ، شاركت فيها كل فصائل العمل الوطني التي كانت موجودة على ساحة غزة في ذلك الوقت وفي مقدمتها ، الجبهة الوطنية المتحدة ، وقوات التحرير الشعبية ، المنبثقة عن جيش التحرير الفلسطيني ، في الوقت الذي انزوى المهرجون في جحورهم ، وآثروا السلامة بين أحضان زوجاتهم ، ورفضوا المقاومة!!!
وفى إحدى العمليات الفدائية الناجحة ، حيث نصبوا كمينا ، في إحدى مدارس الوكالة بالحي ، شرعت قوات الاحتلال الاسرائيلى بمحاصرة حي الشجاعية من جميع المحاور ، وفصلته عن باقي الأحياء الأخرى ، بالمجنزرات العسكرية ، والجيبات المختلفة ، وأخذت مكبرات الصوت المنصوبة على إحدى المجنزرات تصرخ وتنادى بأعلى صوتها ، وبلغة ركيكة : انتبهوا.، انتبهوا .. بيان صادر عن الحاكم العسكري الاسرائيلى سيغان ألوف حاييم... يفرض منع التجول على جميع السكان من الآن وحتى إشعار آخر ، وكل من يتواجد في الشارع يطلق عليه الرصاص ، مما اضطر الناس للعودة إلى بيوتهم بأسرع ما يمكن ، وإخلاء الشوارع ، ولم يعد يرى فيها سوى الكلاب والقطط الضالة ، التي تحدت الأوامر العسكرية .
صدر البلاغ الثاني : على جميع المواطنين الذين تبلغ أعمارهم أكثر من خمسة عشرة ، وأقل من ستين عاما التوجه حالا إلى مدرسة الشجاعية في سوق الجمعة . وعلى الفور بدأ المواطنون يتوجهون إلى المكان المحدد والانتظار ، الذي كان محاصرا بالعربات المصفحة والمجنزران ، وبجنود الاحتلال المدججين بالسلاح ، وبعد تجمع المواطنين في المدرسة المذكورة ، كانت دوريات الاحتلال تقتحم البيوت والأماكن المختلفة للتأكد من خلوها من الرجال وعدم اختباء أحدا منهم ، وبعد مرور أكثر من ساعتين ، حضر قائد الوحدة العسكرية ، وبدأت عمليات محاولة التعرف على الفدائيين الذين نفذوا الكمين ، بواسطة أحد العيون ( تبين فيما بعد أنه إسرائيليا يتقن اللغة العربية ، ومتخصص في علم النفس العسكري ) من خلف ستار من القماش المنصوب على أحد السيارات المصفحة ،يرى المواطنين ولا يرونه ، حيث كان يطلب من الناس المرور صفا واحدا أمامه ، وبإشارة منه يتم اعتقال المشتبه به ، وحجزه ، وتقييد يديه ، وتعصيب عينيه بقماش اسود ، ثم نقله إلى مراكز الاعتقال ، واستمر المواطنون على هذا الحال أكثر من يومين في العراء وبدون طعام وشراب ، وتحت تهديد السلاح ، وحاول المواطنون المحتجزون التململ ، وإجراء المشاورات مع بعض القادة المعروفين لدى الحي لكن كانت عيون الاحتلال لهم بالمرصاد ،مما ازدادت عمليات الهمس والإشارة بينهم .ولكن دون جدوى .
وعلى الوجه الأخر تململت أم يعقوب قبل الرجال المحتجزون ، وفكرت وخططت ، وبدأت في التنفيذ ، بدأت بقذف الحجارة على البيوت المجاورة ، لشد انتباههم ، وبأعلى صوتها نادت عليهم : أخرجي يا أم عماد ، وأنت يا أم طلعت ، وأنت يا صبحه ، وأنت .. وأنت ، اخرجوا يا ستات ، يا نسوان ، يا صبايا ، ولادكو ، وجيزا نكو ، وإخوتكو ، وآبوا تكو ، لم يذوقوا الطعام منذ يومين ، وسيقتلونهم الليلة ، وكل واحدة منكن تحمل ما لديها من البندورة ، والخيار، والخبز ،والزيتون وما هو موجود في البيت والتوجه مباشرة إلى المدرسة ، ولا تخافوا فانا في أولكو ، وبسرعة البرق كانت النسوة تحملن ما تيسر من المواد الغذائية على رؤوسهن وبأيديهن جماعات جماعات ، وتوجهن إلى المدرسة المحاصرة المحاطة بسور مرتفع لأكثر من ثلاثة أمتار .
أكتشف الجنود جماعات النسوة وأفواجهن الكثيفة وهى تقترب شيئا فشيئا من المدرسة ، أطلقوا الأعيرة النارية في الهواء التي لم ترهبهن ، واقتربن من السور العالي للمدرسة ، وأخذن يقذفن البندورة والخيار والخبز والفقوس ، وحب الزيتون بأكياس ، وكل ما كان بيدهن على المواطنين المحتجزين ، بعض هذه المواد الغذائية كان يصل داخل المدرسة ، فتتلقفه الأيادي ، ويجرى توزيعه على البعض ، والآخر يقع خارج سور المدرسة ، مما أحدث المزيد من الفوضى ، وتسلقت مجموعة منهن السور ، وأخذن يزعقن كل واحدة منهن على زوجها أو أخاها أو ابنها أو أبيها ، مما شجع المحتجزين ، فتململوا ، ووقفوا لمراقبة الوضع القائم ، وهجمت أم يعقوب مع جيش المنتفضات ، وفتحن باب المدرسة بالقوة على مصراعيه ، وخاطبت الجميع اخرجوا فورا ، مما اضطر جنود الاحتلال إلى التراجع مع كثافة النساء ، وعجزهم على مواجهة الانتفاضة النسوية اللاتي كن يجرجرن معهم ، أبنائهن ، وبناتهن الأطفال ، واضطر قائد الوحدة لإصدار أوامره للجنود بالانسحاب فورا تخوفا من حدوث تطورات أخرى .
تدافعت النسوة داخل المدرسة ، وكل واحدة منهن تبحث عن زوجها ، أبيها، شقيقها ، خطيبها ، جارها ، وتسال عن أولئك الذين اعتقلوا!!! ويعود المحتجزون وهم محاطون بالزوجات والأخوات والأمهات ، وببنات الجيران إلى بيوتهم ، وهم يتفاخرون بنسائهم بأعلى أصواتهم وبأم يعقوب البطلة ، التي استيقظت صباح اليوم التالي على طلب استدعائها إلى مقر الحاكم العسكري الاسرائيلى !!! رحمك الله يا أم يعقوب ... فنحن في انتظار رفيقة دربك ، أم يعقوب أخرى لتقود مظاهرة ، ومسيرة سلمية ، نسويه ، ورجالية ، ضد كل الممارسات التي تنتهك الحقوق العامة والخاصة للمواطنين ، وحقهم في العيش بكرامة وشموخ ، وبالتأكيد دون أن تأخذ أذنا مسبقا ، أو موافقة شفوية من حكام إمارة غزة ؟؟؟!!!!