محمد جمال عرفة 19/11/1423
22/01/2003
قد تكون مفارقة غريبة للبعض – رغم أنها حقيقة – أن يعلم أن هناك حركة إسلامية نشطة للغاية في الدولة الصهيونية المسماة إسرائيل تسمى رسميا هناك باسم (الحركة الإسلامية) وتعترف بها حكومة تل أبيب، رغم أن الكثير من الحكومات العربية تطارد كل من يعلن انتماءه لهذا التيار !.
ولكن الحقيقة أن هذه الحركة المباركة يقودها شباب واعد من فلسطينيي عام 1948 الذين بنى الصهاينة دولتهم على أنقاض مدنهم في يافا وحيفا والنقب، وأنهم نحتوا -ولا زالوا- في الصخر حتى اضطر الصهاينة للاعتراف بهم بسبب شعبيتهم الجارفة بين أكثر من مليون وربع فلسطيني لا يزالون يعيشون في فلسطين المحتلة عام 1948 وقاوموا التهجير والمذابح؛ حفاظا على أرض الثغر الفلسطينية والمسجد الأقصى المبارك والقدس .
بل إن كل خطط تعمير الأقصى المبارك وافتتاح قاعات ملحقة بالأقصى (كانت مغلقة ومهملة) للصلاة قبل أن يستولي عليها الصهاينة ويقيموا عليها هيكلهم (مثل المصلى المرواني) كان لهؤلاء الإسلاميين الفضل في القيام بها .
وقد يستغرب البعض عندما يعلم أن هذه الحركة الإسلامية التي يقودها شيوخ عظام مثل الشيخ رائد صلاح والشيخ كمال الخطيب والشيخ إبراهيم صرصور وهاشم عبد الرحمن ونمر درويش وغيرهم، وقد اتسع نشاطها ليشمل السعي لرعاية وتخفيف المعاناة عن مسلمي البوسنة وكوسوفا وغيرهم، غير رعايتهم لأحوال أشقائهم من فلسطيني الضفة الغربية وغزة عبر إنشاء عشرات اللجان والهيئات الإغاثية والخيرية والتربوية .
بل إن هذه الحركة الإسلامية نجحت – بعد بناء هياكلها – في الفوز برئاسة العديد من البلديات العربية عبر انتخابات محلية ضمن سعيها لتحسين أحوال فلسطينيي 1948 مثل أم الفحم، وكفر قاسم وكفر برا وجلجولية وراهط، واقتسمت مجالس أخرى مع قوائم عربية أخرى منافسة .
إلا أن هذه الحركة الإسلامية رفضت تماما المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي لأسباب شرعية تتعلق برفضها إضفاء الشرعية من قبلها على دولة الاحتلال "إسرائيل" .
وحتى عندما وقع انشقاق داخل هذه الحركة بين مؤيد للمشاركة في الانتخابات بهدف التأثير في القرار الإسرائيلي (خصوصا بعدما ضحى العرب بهم في اتفاقات أوسلو ) خصوصا أن العرب الفلسطينيين يمثلون حوالي 10% من الناخبين ويحظون بحوالي 10-12 مقعداً في الكنيست (120 مقعداً)، استمرت الغالبية من أبناء الحركة الإسلامية تعارض المشاركة في هذه الانتخابات مما أثار عداء المؤسسة الصهيونية لها، والتي بدأت حربا لا هوادة فيها ضد الحركة وصلت لحد التحقيق حاليا مع كبار شيوخ الحركة والتهديد بإخراجها عن القانون وبالتالي مطاردة أعضائها.
عودة الروح
وتعود الجذور الأولى لهذه الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 48 إلى أوائل السبعينيات، عندما بدا المد الإسلامي في العالم العربي وفلسطين، ومنها إلى أرض 48 حيث كان أبناء "فلسطين 48" يدرسون في المعاهد والمدارس الدينية في الضفة وغزة (إسرائيل كانت تحتل كل فلسطين) .
كما ساعد على انتشار هذا المد الإسلامي تراجع الفكر اليساري في العالم العربي لصالح الصحوة الإسلامية، وتخوف أبناء "فلسطين 48" من الذوبان في المجتمع الصهيوني أو ما سمي (الأسرلة). ويرجع الفضل في تأسيس الحركة الإسلامية في بدايتها إلى الشيخ " عبد الله نمر درويش " الذي درس في المعهد الديني في نابلس، وأقام أول نواة للحركة الإسلامية في كفر قاسم عام 1972 .
وعندما ألقي القبض على الشيخ درويش عام 1981، وحُكم عليه بالسجن أربع سنوات بتهمة العلاقة مع تنظيم أسرة الجهاد المسلح السري الإسلامي، تسلم الراية شباب الحركة الذين تولوا الراية من بعد الشيخ درويش خصوصا أن هذا الأخير قبل بفكرة المشاركة في انتخابات الكنيست عام 1996 فيما رفض غالبية المنتمين للحركة المشاركة فيها .
انقسام الحركة الإسلامية !
بعدما وصلت لأوج قوتها وأسست العشرات من الجمعيات والهيئات الخدمية لفلسطيني 48 ، شهدت الحركة الإسلامية عام 1996 أول انقسام داخلي بين مؤيدي المشاركة في الانتخابات والمعارضين، ما أدى إلى انقسامها إلى جناحين، لا زالا مستمرين حتى الآن وهما :
(الأول) جناح الشيخ "رائد صلاح" : وهو الجناح الأكبر وسمي (الحركة الإسلامية - الفرع الشمالي ) ، وهو يعارض المشاركة في انتخابات الكنيست .
(الثاني) جناح الشيخ "درويش وصرصور" : وهو جناح أصغر من الأول ويضم الشيوخ عبد الله نمر درويش مؤسس الحركة الأول، والشيخ إبراهيم صرصور وغيرهما، ويؤيد هذا الجناح المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية، إلا أن انشقاقات أخرى وقعت داخل هذا الجناح بعضها أكثر تطرفا في المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية حتى عضو هذا الجناح السابق (توفيق الخطيب) تحالف مع حزب "ميريتس" الإسرائيلي !.
الصهاينة في ورطة !
ومنذ تصاعد المواجهة بين أجهزة المخابرات الصهيونية والحركة الإسلامية لحد إغلاق العديد من المؤسسات الإغاثية والخيرية الإسلامية، ومنع الشيخ رائد صلاح من السفر للخارج والتحقيق مع قادة الحركة عدة مرات بتهمة العداء للدولة الصهيونية ، وهناك حالة من القلق تسود الصهاينة قبل أن تزعج الحركة الإسلامية .
فالمعركة الدائرة منذ عدة سنوات بين الصهاينة وحركات المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد وصلت إلى العمق الصهيوني في تل أبيب والقدس عبر عشرات التفجيرات الاستشهادية بشكل بات يهدد استقرار الدولة الصهيونية، أما المعركة الدائرة حاليا بين الصهاينة والحركة الإسلامية في إسرائيل ذاتها فتهدد (في حالة اعتبار الحركة غير شرعية وإخراجها عن القانون ) كيان الدولة العربية ذاته حيث قد تضطر الحركة الإسلامية في هذه الحالة إلى اتباع أساليب سرية وتخوض مواجهة داخلية مع الصهاينة تضاعف العبء الواقع عليهم جراء المواجهة مع حركات حماس والجهاد، وربما لهذا يشعر الصهاينة أنهم في ورطة حتى أن بعض محلليهم يقولون إن المأزق الذي واجهته غالبية الدول العربية في علاقتها مع الحركات الإسلامية النشطة داخليا يواجه الدولة الصهيونية بدورها الآن .
المجتمع العصامي قادم
وقد زاد الرعب الصهيوني أن أبناء الحركة الإسلامية شرعوا منذ فترة في تأسيس ما أسماه الشيخ رائد صلاح (المجتمع العصامي) والمقصود به بناء ما يشبه الدولة الإسلامية العربية في فلسطين 48 داخل الدولة الصهيونية، بحيث يكون لهم مؤسساتهم الخاصة وتمويلهم الخاص وتجارتهم، ولا يعتمدون على الصهاينة في أمورهم المعيشية .
ويشرح الشيخ رائد صلاح لـ ( إسلام تودي) تفاصيل هذا المجتمع العصامي قائلا : إن الحركة الإسلامية في أرض فلسطين 1948 شرعت في بناء ما أسماه ( مشروع المجتمع العصامي ) بسبب الظروف الصعبة التي مروا بها والحصار الذي فرض عليهم عقب انتفاضة الأقصى، والاضطهاد الديني على أيدي اليهود، مشيرا إلى أن هدف المشروع هو اعتماد فلسطينيي 48 على الذات، وعدم وضع أنفسهم تحت رحمة الحكومة الإسرائيلية، بحيث نعتمد على أنفسنا .
ويشير في هذا الصدد إلى إنشاء ( هيئة الإغاثة العليا ) التي تشرف على العديد من الأمور الصحية والاجتماعية والمرافق لفلسطيني 48 .
وحول السبب في طرح هذا المشروع (المجتمع العصامي)، وهل هو يشبه فكرة بناء دولة داخل الدولة الإسرائيلية خاصة بعرب 48، قال الشيخ صلاح: الهدف هو بناء مجتمع متكامل يملك أمور حياته بيديه ومؤسساته بيديه، ويتحرر من مخاطر الضغط الذي يقع عليه من طرف المؤسسة الإسرائيلية " .
وضرب أمثلة على ما حدث لفلسطينيي 48 وجعلهم يفكرون في إنشاء هذا المجتمع العصامي المستقل نسبيا عن المجتمع الإسرائيلي والمعتمد علي ذاته، بقوله : إن ظروف الحصار علينا عقب انتفاضة الأقصى كانت صعبة، وكان لدينا العديد من المصابين ( البوليس الإسرائيلي قتل 13 من فلسطينيي 48 في مظاهرات مؤيدة للانتفاضة ) ومفروض علينا حصار وليس لدينا مستشفى واحد لعلاج المصابين، ومن هنا فكرنا – في إطار فكرة المجتمع العصامي- في الاعتماد على الذات وبناء مستشفيات وشركات اقتصادية وتعليمية واجتماعية ومؤسسات خاصة بفلسطيني 48 "حتى لا نكون اتكاليين ومربوطين بالمجتمع الإسرائيلي بما يسهل عليه معاقبتنا وتجويعنا " .
وقال إن هناك سعي للبحث عن تمويل لمشروعاتنا من خلال البديل الإسلامي النابع من الفكر الإسلامي، مثل إحياء الوقف الإسلامي، وإحياء باب الوصية وفكرة الثلث .
أضاف الشيخ صلاح يقول إن هناك معاملات أخرى هي أفكار إسلامية، ولكن غيرنا أحياها ونحن لم نأخذ بها مشيرا إلى أن اليهود لديهم "الكيبوتس والموشاف" وعندما ندرسها نجد أنها أساسا إسلامية، وفكرنا لماذا لا نعمل في هذا الاتجاه وعندنا علماء يرشدوننا ؟
وتساءل : لماذا لا يكون عندنا (كيبوتس إسلامي ) أو مجتمع تعاوني إسلامي له تجارته وخصوصياته الاجتماعية وأمنه المستقل على غرار الكيبوتس الإسرائيلي ؟!.
وقد ألمح الشيخ صلاح إلى أن نشأة فكرة المجتمع العصامي لها علاقة باتفاقيات أوسلو التي استبعدت فلسطينيي 48 تماما من التسوية، قائلا إن : الفكرة كانت عندنا وتبلورت بعد انتفاضة الأقصى، فقد كانت لدينا بدايات لأفكار حول المدارس والمؤسسات الفلسطينية الخاصة بأهل 48، واتفاقات أوسلو زادت من قناعتنا لبناء هذا المجتمع العصامي؛ لأنها اقتصرت على فلسطينيي 67 ولم يعد أحد يتحدث عنا سوى أننا جزء من المجتمع الإسرائيلي !.